فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب}.
لما قرر الأصول الثلاثة على ما بيناه عاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله: {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم مّن نَّذيرٍ} [القصص: 46] وقال: {قُلْ مَا كُنتُ بدْعًا مّنَ الرسل} [الأحقاف: 9] بل كان قبلك رسل مثلك واختار من بينهم موسى لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم ووجود من كان على دينه إلزامًا لهم، وإنما لم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه، وقوله: {فَلاَ تَكُن في مرْيَةٍ مّن لّقَائه} قيل معناه فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، وقيل بأنه رآه ليلة المعراج وقيل معناه فلا تكن في شك من لقاء الكتاب فإنك تلقاه كما لقي موسى الكتاب ويحتمل أن تكون الآية واردة لا للتقرير بل لتسلية النبي عليه السلام فإنه لما أتى بكل آية وذكر بها وأعرض عنها قومه حزن عليهم، فقيل له تذكر حال موسى ولا تحزن فإنه لقي ما لقيت وأوذي كما أوذيت، وعلى هذا فاختيار موسى عليه السلام لحكمة، وهي أن أحدًا من الأنبياء لم يؤذه قومه إلا الذين لم يؤمنوا به، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى فإن لم يؤمن به آذاه مثل فرعون وغيره ومن آمن به من بني إسرائيل أيضًا آذاه بالمخالفة وطلب أشياء منه مثل طلب رؤية الله جهرة ومثل قوله: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتلا} [المائدة: 24] ثم بين له أن هدايته غير خالية عن المنفعة كما أنه لم تخل هداية موسى، فقال: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبَني إسرائيل وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا} فحيث جعل الله كتاب موسى هدى وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صحابة يهدون كما قال عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر، فقال: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآياتنا يُوقنُونَ} فكذلك اصبروا وآمنوا بأن وعد الله حق.
قوله: {إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ}.
هذا يصلح جوابًا لسؤال: وهو أنه لما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ} كان لقائل أن يقول كيف كانوا يهدون وهم اختلفوا وصاروا فرقًا وسبيل الحق واحد، فقال فيهم هداة والله بين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة، وفيه وجه آخر، وهو أن الله تعالى بين أنه يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم فينبغي أن لا يأمن من آمن وإن لم يجتهد، فإن المبتدع معذب كالكافر، غاية ما في الباب، أن عذاب الكافر أشد وآلم وأمد وأدوم.
ثم قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَهْد لَهُمْ كَمَا أَهْلَكْنَا من قَبْلهمْ مّنَ القرون} قد ذكرنا أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} تقرير لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإعادة لبيان ما سبق في قوله: {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم مّن نَّذيرٍ مّن قَبْلكَ} [السجدة: 3]. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَلَقْدَ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكَتابَ فَلاَ تَكُن في مرْيَةٍ مّن لّقَائه} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ولقد لقيته ليلة الإسراء روى أبو العالية الرياحي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَأيتُ لَيْلَةَ أُسْريَ بي مُوسَى بْنَ عمرانَ رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ من رجَال شَنُوءَةَ. وَرَأَيْتُ عيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَجُلًا مَرْبُوعَ الخَلْق إلَى الحُمْرَة وَالبَيَاض سَبْطَ الرَّأُس» قال أبو العالية قد بين الله ذلك في قوله: {وَاسْأَلْ منْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ من رُّسُلنَا}.
الثاني: فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها.
الثالث: فلا تكن في شك من لقاء موسى في الكتاب، قاله مجاهد والزجاج.
الرابع: فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقيه موسى، قاله الحسن.
الخامس: فلا تكن في شك من لقاء موسى لربه حكاه النقاش.
{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَني إسْرَائيلَ} فيه وجهان:
أحدهما: جعلنا موسى، قاله قتادة.
الثاني: جعلنا الكتاب، قاله الحسن.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا منهُمْ أَئمَةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا} فيه وجهان:
أحدهما: أنهم رؤساء في الخير تبع الأنبياء، قاله قتادة.
الثاني: أنهم أنبياء، وهو مأثور.
{لَمَّا صَبَرُوا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: على الدنيا، قاله سفيان.
الثاني: على الحق، قاله ابن شجرة.
الثالث: على الأذى بمصر لما كلفوا ما لا يطيقون، حكاه النقاش.
{وَكَانُوا بئَايَاتناَ} يعني بالآيات التسع {يُوقنُونَ} أنها من عند الله.
قوله: {إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ} الآية فيها وجهان:
أحدهما: يعني بين الأنبياء وبين قومهم، حكاه النقاش.
الثاني: يقضي بين المؤمنين والمشركين فيما اختلفوا فيه من الإيمان والكفر، قاله يحيى بن سلام. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَلَا تَكُنْ في مرْيَةٍ منْ لقَائه}.
قرأ الناس {في مرية} بكسر الميم، وقرأ الحسن بضمها، واختلف المتأولون في الضمير الذي في {لقائه} على من يعود؛ فقال أبو العالية الرياحي وقتادة: يعود على موسى، والمعنى لا تكن في شك من أن تلقى موسى، أي في ليلة الإسراء، وهذا قول جماعة من السلف، وقاله المبرد حين امتحن ابا إسحاق الزجاج بهذه المسألة، وقالت فرقة الضمير عائد على {الكتاب} أي أنه لقي موسى حين لقيه موسى، والمصدر في هذا التأويل يصح أن يكون مضافًا للفاعل بمعنى لقي الكتاب موسى، ويصح أن يكون مضافًا إلى المفعول بمعنى لقي الكتابَ- بالنصب- موسى، وقال الحسن الضمير عائد على ما يتضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى، وذلك أن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال: {ولقد آتينا موسى} هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس، وكأن الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة معناه فلا تكن في شك من لقائه في الآخرة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول ضعيف، وقالت فرقة الضمير العائد على {ملك الموت} [السجدة: 11] الذي تقدم ذكره، وقوله: {فلا تكن في مرية من لقائه} اعتراض بين الكلامين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضًا ضعيف، والمرية الشك، والضمير في {جعلناه} يحتمل أن يعود على موسى، وهو قول قتادة، ويحتمل أن يعود على {الكتاب} و{أئمة} جمع إمام وهو الذي يقتدى به وأصله خيط البناء وجمهور النحويين على {أئمة} بياء وتخفيف الهمزة، إلا ابن أبي إسحاق فإنه جوز اجتماع الهمزتين وقرأ: {أئمة} وقرأ جمهور القراء {لَمَّا صبروا} بفتح اللام وشد الميم، وقرأ حمزة والكسائي {لما} بكسر اللام وتخفيف الميم وهي قراءة ابن مسعود وطلحة والأعمش، فالأولى في معنى الظرف والثانية كأنه قال لأجل صبرهم، فما مصدرية، وفي القراءتين معنىلمجازاة أي جعلهم أئمة جزاء على صبرهم عن الدنيا وكونهم موقنين بآيات الله وأوامره وجميع ما تورده الشريعة، وقرأ ابن مسعود {بما صبروا} وقوله تعالى: {إن ربك} الآية، حكم يعم جميع الخلق، وذهب بعض المتأولين إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن في مرْيَةٍ مّن لّقَآئه} أي فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى؛ قاله ابن عباس.
وقد لقيه ليلة الإسراء.
قتادة: المعنى فلا تكن في شك من أنك لقيته ليلة الإسراء.
والمعنى واحد.
وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة، وستلقاه فيها.
وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب بالقبول؛ قاله مجاهد والزجاج.
وعن الحسن أنه قال في معناه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} فأوذي وكُذّب، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيَه من التكذيب والأذى؛ فالهاء عائدة على محذوف، والمعنى من لقاء ما لاقى.
النحاس: وهذا قول غريب، إلا أنه من رواية عمرو بن عُبيد.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: قل يتوفاكم مَلَك الموت الَّذي وُكّل بكم فلا تكن في مرْية من لقائه؛ فجاء معترضًا بين {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} وبين {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إسْرَائيلَ}.
والضمير في {وَجَعَلْنَاهُ} فيه وجهان: أحدهما: جعلنا موسى؛ قاله قتادة.
الثاني: جعلنا الكتاب؛ قاله الحسن.
{وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً} أي قادةً وقُدْوةً يُقتَدى بهم في دينهم.
والكوفيون يقرؤون {أَئَمَّةً} النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين؛ لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة، وهو من دقيق النحو.
وشرحه: أن الأصل أَأْممَة ثم ألقيت حركة الميم على الهمزة وأدغمت الميم، وخفّفت الهمزة الثانية لئلا يجتمع همزتان، والجمع بين همزتين في حرفين بعيد؛ فأمّا في حرف واحد فلا يجوز إلا تخفيف الثانية نحو قولك: آدم وآخر.
ويقال: هذا أومّ من هذا وأيمّ؛ بالواو والياء وقد مضى هذا في براءة والله تعالى أعلم.
{يَهْدُونَ بأَمْرنَا} أي يدعون الخلق إلى طاعتنا.
{بأَمْرنَا} أي أمرناهم بذلك.
وقيل: {بأَمْرنَا} أي لأمرنا؛ أي يهدون الناس لديننا.
ثم قيل: المراد الأنبياء عليهم السلام؛ قاله قتادة.
وقيل: المراد الفقهاء والعلماء.
{لَمَّا صَبَرُوا} قراءة العامة {لَمّا} بفتح اللام وتشديد الميم وفتحها؛ أي حين صبروا.
وقرأ يحيى وحمزة والكسائي وخَلَف ورُوَيْس عن يعقوب: {لما صَبَرُوا} أي لصبرهم جعلناهم أئمة.
واختاره أبو عبيد اعتبارًا بقراءة ابن مسعود {بمَا صَبَرُوا} بالباء، وهذا الصبر صبرٌ على الدين وعلى البلاء، وقيل: صبروا عن الدنيا.
{إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} أي يقضي ويحكم بين المؤمنين والكفار، فيجازي كُلًا بما يستحق.
وقيل: يقضي بين الأنبياء وبين قومهم؛ حكاه النقاش. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} أي التَّوراةَ عبَّر عنها باسم الجنس لتحقيق المجانسة بينها وبينَ الفُرقان والتنبيه على أنَّ إيتاءَه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كإيتائها لمُوسى عليه السَّلامُ {فَلاَ تَكُن في مرْيَةٍ مّن لّقَائه} من لقاء الكتاب الذي هو الفُرقان كقوله: {وإنك لتلقَّى القرآنَ} والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتاب ولقَّيناه من الوحي مثلَ ما لقَّيناك من الوحي فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه وقيل: من لقاء مُوسى الكتاب أو من لقائك مُوسى وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «رأيتُ ليلة أُسري بي مُوسى رجلًا آدَمَ طُوالًا جَعْدًا كأنَّه من رجال شنوءة» {وجعلناه} أي الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى {هُدًى لّبَنى إسراءيل} قيل: لم يُتعبدْ بما في التَّوراة ولدُ إسماعيلَ.
{وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ} بقيتهم بما في تضاعيف الكتاب من الحُكم والأحكام إلى طريق الحقّ أو يهدونَهم إلى ما فيه من دين الله وشرائعه {بأَمْرنَا} إيَّاهم بذلك أو بتوفيقنا له {لَمَّا صَبَرُوا} هي لما التي فيها مَعنى الجزاء نحو أحسنتُ إليك لمَّا جئتني. والضَّميرُ للأئمة تقديرُه لمَّا صبرُوا جعلناهُم أئمةً أو هي ظرفٌ بمعنى الحين أي جعلناهُم أئمةً حين صبرُوا والمرادُ صبرُهم على مشاقّ الطَّاعات ومقاساة الشَّدائد في نُصرة الدّين أو صبرُهم عن الدُّنيا. وقُرىء لمَا صبرُوا أي لصبرهم {وَكَانُوا بآياتنا} التي في تضاعيف الكتاب {يُوقنُونَ} لإمعانهم فيها النَّظرَ والمعنى كذلك لنجعلنَّ الكتابَ الذي آتيناكَه هُدى لأمَّتك ولنجعلنَّ منهم أئمَّةً يهدون مثلَ تلك الهداية {إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ} أي يقضي {بَيْنَهُمْ} قيل: بينَ الأنبياء وأممهم وقيل: بين المؤمنينَ والمشركينَ {يَوْمُ القيامة} فيميّزُ بين المُحقّ والمُبطل {فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ} من أمور الدّين. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} أي جنس الكتاب {فَلاَ تَكُن في مرْيَةٍ} أي شك وقرأ الحسن {مرْيَةٍ} بضم الميم {مّن لّقَائه} أي لقائك ذلك الجنس على أن لقاء مصدر مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم والضمير المذكور للكتاب المراد به الجنس وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة ولقاؤه باعتبار لقاء القرآن، وهكذا كقوله تعالى: {وَإنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان من لَّدُنْ حَكيمٍ عَليمٍ} [النمل: 6] وقوله سبحانه: {وَنُخْرجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كتَابًا يلقاه مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] وحمل بعضهم {الكتاب} على العهد أي الكتاب المعهود وهو التوراة ولما لم يصح عود الضمير إليه ظاهرًا لأنه عليه الصلاة والسلام لم يلق عين ذلك الكتاب قيل: الكلام على تقدير مضاف أي لقاء مثله أو على الاستخدام أو أن الضمير راجع إلى القرآن المفهوم منه، ولا يخفى ما في كل من البعد، والمعنى أنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره، وخلاصة ما تؤذن به الفاء التفريعية أن معرفتك بأن موسى عليه السلام أوتي التوراة ينبغي أن تكون سببًا لإزالة الريب عنك في أمر كتابك؛ ونهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يكون في شك المقصود منه نهى أمته صلى الله عليه وسلم والتعريض بمن اتصف بذلك، وقيل: المصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف هو ضميره عليه الصلاة والسلام أي من لقائه إياك ووصوله إليك، وفي التعبير باللقاء دون الإيتاء من تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى على المتدبر، وقد يقال: إن التعبير به على الوجه السابق مؤذن بالتعظيم أيضًا لكن من حيثية أخرى فتدبر.
وقيل: الكتاب التوراة وضمير {لّقَائه} عائد إليه من غير تقدير مضاف ولا ارتكاب استخدام، ولقاء مصدر مضاف إلى مفعوله وفاعله موسى أي من لقاء موسى الكتاب أو مضاف إلى فاعله ومفعوله موسى أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، فالفاء مثلها في قوله:
ليس الجمال بمئزر ** فاعلم وان رديت بردًا

دخلت على الجملة المعترضة بدل الواو اهتمامًا بشأنها، وعن الحسن أن ضمير {لّقَائه} عائد على ما تضمنه الكلام من الشدة والمحنة التي لقي موسى عليه السلام فكأنه قيل: ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقى هو من الشدة والمحنة بالناس، والجملة اعتراضية ولا يخفى بعده، وأبعد منه بمراحل ما قيل: الضمير لملك الموت الذي تقدم ذكره والجملة اعتراضية أيضًا، بل ينبغي أن يجل كلام الله تعالى عن مثل هذا التخريج.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في الآية: أي من لقاء موسى. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أنه قال كذلك فقيل له: أو لقي عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ من رُّسُلنَا} [الزخرف: 45] وأراد بذلك لقاءه صلى الله عليه وسلم إياه ليلة الإسراء كما ذكر في الصحيحين، وغيرهما، وروي نحو ذلك عن قتادة. وجماعة من السلف، وقاله المبردحين امتحن الزجاج بهذه الآية، وكأن المراد من قوله تعالى: {فلا تكن في مرية من لقائه} على هذا وعده تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بلقاء موسى وتكون الآية نازلة قبل الإسراء والجملة اعتراضية بالفاء بدل الواو كما سمعت آنفًا.
وجعلها مفرعة على ما قبلها غير ظاهر وبهذا اعترض بعضهم على هذا التفسير وبالفرار إلى الاعراض سلامة من الاعتراض وكأنى بك ترجحه على التفسير الأول من بعض الجهات والله تعالى الموفق.
{وَجَعَلْنَاهُ} أي الكتاب الذي آتيناه موسى، وقال قتادة أي وجعلنا موسى عليه السلام {هُدًى} أي هاديًا من الضلال {لّبَنى إسرائيل} خصوا بالذكر لما أنهم أكثر المنتفعين به، وقيل: لأنه لم يتعبد بما في كتابه عليه الصلاة والسلام ولد اسماعيل صلى الله عليه وسلم.
{وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً} قال قتادة: رؤساء في الخير سوى الأنبياء عليهم السلام، وقيل: هم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل {يَهْدُونَ} بقيتهم بما في تضاعيف الكتاب من الحكم والأحكام إلى طريق الحق أو يهدونهم إلى ما فيه من دين الله تعالى وشرائعه عز وجل: {بأَمْرنَا} إياهم بأن يهدوا على أن الأمر واحد الأوامر، وهذا على القول بأنهم أنبياء ظاهر، وأما على القول بأنهم ليسوا بأنبياء فيجوز أن يكون أمره تعالى إياهم بذلك على حد أمر علماء هذه الأمة بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} [آل عمران: 104] الآية.
وجوز أن يكون الأمر واحد الأمور والمراد يهدون بتوفيقنا {لَمَّا صَبَرُوا} قال قتادة: على ترك الدنيا؛ وجوز غيره أن يكون المراد لما صبروا على مشاق الطاهر ومقاساة الشدائد في نصرة الدين، و{لَّمًّا} يحتمل أن تكون هي التي فيها معنى الجزاء نحو لما أكرمتني أكرمتك أي لما صبروا جعلنا أئمة، ويحتمل على تكون هي التي بمعنى الحين الخالية عن معنى الجزاء، والظاهر أنه حينئذ ظرف لجعلنا أي جعلناهم أئمة حين صبروا، وجوز أبو البقاء كونها ظرفًا ليهدون.
وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي ورويس {لَّمًّا} بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للتعليل وما مصدرية أي لصبرهم وهو متعلق بجعلنا أو بيهدون.
وقرأ عبد الله أيضًا {بمَا} بالباء السببية وما المصدرية أي بسبب صبرهم {وَكَانُوا بآَيَاتنَا} التي في تضاعيف الكتاب، وقيل: المراد بها ما يعم الآيات التكوينية، والجار متعلق بقوله تعالى: {يُوقنُونَ} أي كانوا يوقنون بها لا معانهم فيها النظر لا بغيرها من الأمور الباطلة، وهو تعريض بكفرة أهل مكة، والجملة معطوفة على {صَبَرُوا} فتكون داخلة في حيز {لَّمًّا} وجوز أن تكون معطوفة على {جَعَلْنَا} وأن تكون في موضع الحال من ضمير {صَبَرُوا}.
والمراد كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه أو لنجعلنك هدى لأمتك ولنجعلن منهم أئمة بهدون مثل تلك الهداية.
{إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ} أي يقضى {بَيْنَهُمْ} قيل: بين الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وقيل: بين المؤمنين والمشركين {يَوْمُ القيامة} فيميز سبحانه بين المحق والمبطل {فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ} من أمور الدين. اهـ.